البابا فرنسيس !

        بسم الله الرحمن الرحيم

موقف سياسي أسبوعي لرئيس الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة الشيخ ماهر حمود:

خطبة الجمعة بتاريخ 27 شوال 1446هـ الموافق له 25 نيسان 2025م

البابا فرنسيس !

لا شك ان البابا فرنسيس كان اكثر الباباوات حرصاً على الحوار الاسلامي المسيحي، وكان اكثر الباباوات محاولة لاظهار الموقف المسيحي الحقيقي من الفقراء والمستضعفين والمظلومين، ولا شك ان وفاته خسارة للعالم الاسلامي، كما هو خسارة للمعتدلين والمنصفين في العالم المسيحي، فاننا نؤكد من موقع تجربتنا وما نمثل، ان خسارتنا فيه خسارة كبيرة، فلقد اثبت من خلال زيارته للامارات والتوقيع على وثيقة الاخوة الانسانية في 4 شباط 2019 مع شيخ الازهر العلامة الشيخ احمد الطيب حفظه الله، ومن ثم زيارته للنجف الاشرف ولقاءه المرجع الشيعي السيد علي السيستاني، في ازقة النجف المغرقة في تواضعها، دون ان يشترط مظاهر استقبال او حفاوة او غير ذلك، كان ذلك في اذار 2021، اثبت حرصه الكبير على التواصل مع المسلمين والبحث عن نقاط توافق وتلاق.

كما انه ختم حياته بكلام واضح يدين حرب الابادة على غزة،  كما انه واجه نائب الرئيس الاميركي (دي فانس)، بكلام واضح يدين به موقف اميركا من العدوان المستمر على غزة.

وهنا لا بد ان نشير الى ان موقف الفاتيكان بشكل عام من العالم الاسلامي والحوار مع المسلمين، كان دائماً ايجابياً وافضل بكثير من مواقف الكنائس المحلية، ودليل ذلك استقالة البابا بنديكتوس السادس عشر بتاريخ 11-2-2013، وذلك بعد ان تكلم كلاماً غير لائق عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

كما ان الموقف السياسي المعلن عن الصهيونية واسرائيل كان دائماً ايجابياً، فلقد رفضت الفاتيكان انشاء علاقة دبلوماسية مع الكيان الصهيوني، حتى وقّع من وقّع باسم الفلسطينيين زوراً، اتفاق اوسلو في العام 1993، عندها أقام الفاتيكان علاقة دبلوماسية مع الكيان الصهيوني بحجة ان اصحاب القضية اعترفوا باسرائيل، فلن نكون ملكيين اكثر من الملك، قلنا وقتها، في ندوة عقدت في صيدا في اوائل العام 1994، الى جانب البطريرك الحالي مار بشارة بطرس الراعي، اننا نطالب الفاتيكان ان تكون علاقتها مع الشعوب وليس مع الانظمة، ولقد ثبت ان كلامنا هو الحق، بعد ان ثبت ان اوسلو لا تمثل الا اقلية قليلة من الفلسطينيين، كما ان شيئاً من بنودها لم يطبق الا التنسيق الامني واعتقال ابطال المقاومة او كشف هوياتهم، وما موقف محمود عباس الاخير وتوجهه بالشتائم المقذعة لابطال حماس الا دليلاً على ما قلناه منذ ثلاثة عقود كاملة او اكثر.

والحق يقال ، ان مجرد اختيار البطريرك (خورخي ماريو بيرجوليو) لاسم فرنسيس، بعد تنصيبه اسقفاً للفاتيكان، وهو اول بابا يختار هذا الاسم لنفسه، هو بحد ذاته دليل على اهدافه، ذلك ان “القديس فرنسيس” الذي عاش ما بين 1118 – 1226، كان مثالاً في التواضع وحب الفقراء، كما انه التقى بالملك الكامل الايوبي، شقيق صلاح الدين الاكبر في دمياط في مصر عام 1219، وكان لقاءً تاريخيا ، وكان رمزاً للحوار بين الاديان… واول لقاء من نوعه في التاريخ، ومن بعد هذا اللقاء سمح الملك الكامل للاب فرنسيس بانشاء رهبانيات في المدن الاسلامية المعروفة، هذا رغم ان الظرف كان صعباً وكانت الحملات الصليبية تتوالى وترتكب كل انواع الموبقات ، ولكن الاب فرنسيس الاسيزي لم ينتم لهذه الحروب ولم يحرض عليها ولم يشارك فيها.

وهنا لا بد ان نذكر ان بعض الباباوات قاموا بأعمال منكرة اثرت في تاريخ الكنيسة وبعلاقة المسيحيين مع العالم الاسلامي، كالبابا اوربان الثاني (1042-1099) الذي حرض على الحروب الصليبية وكان خلف ارسال الحملة الصليبية الاولى (10960- 1099)، وكان خلف كل حملة صليبية بابا من الباباوات، كما ان البابا ليو العاشر، ابتدع فكرة صكوك الغفران التي شقت الكنيسة وكانت سبباً في ظهور البروتستانت (المعترضين) بقيادة الاب الالماني مارتن لوثر (1483-1546).

اما في العقود المعاصرة فلم يكن البابا بولس السادس موفقا في اعلان براءة اليهود من دم المسيح (عام 1965)، مع ان ظاهر الامر صحيح يعتمد على الفكرة الواردة في الآية القرآنية (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ …(18)) (فاطر)، فما شأن عامة اليهود بما فعله البعض منهم، لكن الامر كان يخفي نوعا من تبييض وجه الصهيونية والكيان الصهيوني الغاصب، مع العلم ان هذا الاعلان تراجعت اهميته بعد حرب 1967… الخ.

أما الجانب الايجابي في هذا الصدد فقد مثله البابا يوحنا بولس الثاني (1978-2005) الذي اعتذر عن كثير من اخطاء الكنيسة والرهبان والرهبانيات ، ومنها الاعتذار عما سببته الحروب الصليبية من عنف وعدم تسامح وانتهاكات ضد المنشقين وضد الديانات في 12 اذار 2000، لقد كان لهذا الاعلان وقع ايجابي كبير في العالم الاسلامي، كان يفترض ان يؤسس الى مرحلة جديدة من الحوار الاسلامي المسيحي.

ولا ننسى ان الفاتيكان وقف بشكل واضح ضد العدوان الاميركي على العراق عام 2003.

اننا نؤكد على ضروره استمرار الحوار الاسلامي المسيحي حتى لا يظلم احد كما نصت الآية الكريمه (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)) (آل عمران)، مستندين الى الحوار الذي اجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الثاني الهجري مع نصارى نجران، ووصل في نهايته الى طلب المباهله اي التوجه الى الله بالدعاء والابتهال بان يعاقب الكاذب من الفريقين، ()فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)) (آل عمران).

ولكن نصارى نجران رفضوا ذلك وطلبوا من سيد الانام عليه الصلاة والسلام ان يرسل معهم من يحكم بينهم في امور اختلفوا عليها، فارسل معهم امين الامه ابو عبيده بن الجراح، مما يؤكد أنهم اعترفوا بعدالة النبي وانصافه رغم انهم لم يعلنوا اسلامهم، ولقد اعلنوا اسلامهم لاحقاً ، على ارجح الاقوال.

لا غنى لنا عن الحوار الذي نؤكد من خلاله ثوابت الامة دون ان نخضع للحكام وارتباطاتهم وخضوعهم لاملاءات الغرب، حتى لو يكن علماؤنا ومؤسساتنا الاسلاميه قادرة على ان تضع مواقفها موقف التنفيذ، ولكن حتى يبقى صوت الحق كصوت الضمير ماثلا في الاذهان، عسى ان يوقظ الغافلين ويصحح مسار المنحرفين.

فالمشكلة دائماً في الحكام الذين يسخرون كل شيء لمصلحة حكمهم، وهم في غالب الامر يزورون حقائق التاريخ والجغرافيا، ويعمدون الى كتابة النصوص الدينية بأيديهم ثم يزعمون انها من عند الله، واستطاع الحكام ان يوجدوا طبقة من رجال الدين المسيحي كما الاسلامي، يسخرون النصوص الدينية لمصلحة الحكام دون اي خجل او ارتباك… فعندما يوجد بابا مثل هذا، نكون قد خسرنا فعلاً صوتاً من اصوات الحق، عسى الله ان يعوضنا عنه خيراً، انه سميع مجيب.

مقالات ذات صلة